• ١٨ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١١ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفقر خطر يهدد بناء الدولة المدنية في العراق

د. خالد عليوي

الفقر خطر يهدد بناء الدولة المدنية في العراق

عندما نتكلّم عن خطر الفقر على بناء الدولة المدنية في العراق، فهذا الكلام ليس مجرد انفعال عاطفي ناتج عن المعلومات المتواترة المرتبطة بتصاعد مستويات الفقر في هذا البلد، أو نتيجة المشاهدات الميدانية لجموع الفقراء الذين يمكن بسهولة رؤيتهم في الشوارع العامّة والأحياء الفقيرة البائسة التي تزخر بها مدن العراق وضواحيها، إذ على الرغم من حضور العاطفة القوي في هذا المشهد المؤلم إلّا أنّ الأُسس الموضوعية تبقى هي الحاكمة عند تحليل وتقييم خطر الفقر.

إنّ استمرار وتصاعد نسب الفقر ينذر بضياع الديمقراطية العراقية الهشة، وانهيار الثقة بمشروعها ورجالها وقيمها، كما يبذر البذور المنتجة لكلّ التهديدات السياسية والاجتماعية والأمنية - الآن وفي المستقبل - فالفقر هو الكلمة الملخصة للفشل الحكومي التام، وهو صندوق باندورا الذي ستخرج منه كلّ الشرور، لماذا؟

توجد الكثير من الكتابات التي تناولت موضوع مخاطر الفقر بالبحث والتحليل، إلّا أنّ ما نرغب في التركيز عليه من بينها هو تلك الآراء التي قدّمها الكاتب الهندي الأصل (أمارتيا صن) في كتابه القيم الموسوم (التنمية حرّية)، إذ وصف الفقر بأنّه ليس مجرّد نقص في مستوى دخل الفرد، يقود إلى أضعاف قدرته الشرائية، وإنّما يترتب على هذا النقص نقص أخطر في قدراته، وهذه القدرات هي «الحرّيات الموضوعية التي يحظى بها لبناء نوع الحياة التي لديه الأسباب لإضفاء قيمة عليها»، فانخفاض دخل الأفراد يعني حرمانهم من الأداة الوحيدة لتوليد قدراتهم، وأي حرمان نسبي في الدخل يقود إلى حرمان مطلق في القدرات (أمارتيا صن، التنمية حرّية، ص137-146).

وهذا يعني تماماً أنّ الفقراء يفقدون حرّياتهم، وعندما يفقدون هذه الحرّيات سيفقدون معها أي قدرة إبداعية لبناء الحياة أو تجديدها، كما سيفقدون القدرة على الانفتاح على الآخر والتسامح مع رأيه المخالف، ويكونون أداة يمكن استثارتها بسهولة لتحقيق أجندات متخلفة أو تبنّي أفكار وسلوكيات منحرفة ومتطرّفة، وعندها يكون حديث النُّخبة السياسية أو المثقفة عن الديمقراطية والأخلاق المدنية مجرّد لغو فارغ يفتقر إلى الأنصار والمؤيدين.

هذا التأثير المدمر للفقر يدفع إلى عدم الاستغراب من موقف الفيلسوف الكبير (أرسطو) عندما جعل الفقر كقاعدة من قواعد الحكم المستبد إلى جانب الفساد والجهل، بل يكاد يكون الفقر هو القاطرة المميتة التي تقود المجتمع نحو تدميره الذاتي تمهيداً لإخضاعه من قبل أصحاب السلطة والنفوذ المنحرف.

لقد خلصت التجربة التاريخية للبشر على اختلاف مشاربهم الفكرية والعقائدية والإثنية إلى حقيقة لا جدال حولها مفادها: إنّ الفقر هو العدو الأوّل للحرّية سواء كانت حرّية فردية أم جماعية، فالفقراء تُسحق كرامتهم الاجتماعية، وينعدم لديهم الشعور بالمساواة مع غيرهم من أبناء المجتمع، كما تضعف مشاركتهم في الأُمور العامّة، وتنخفض معارفهم ومهاراتهم النظرية والعملية، وتدفعهم ظروف حياتهم البائسة إلى تقبّل الكثير من القيود والأحكام التي تتناقض مع إرادتهم وفعلهم الحرّ. لذا تجد الفقير محطماً، ذليلاً، مسلوب الإرادة، يحيا مهموماً بحاجات يومه، أمّا المستقبل فخارج عن إطار المفكر فيه لديه.

 ولا يتوقّف خطر الفقر عند ما تقدّم، بل أنّ الكارثة الكبرى تكمن في أنّ الفقر وما يرتبط به من منظومة قيم وسلوك غالباً ما يجري توريثه/ توريثها من الإباء إلى الأبناء والأحفاد، من خلال ما يسمّيه الاقتصاديون «دوائر الفقر» التي تجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة من الفقر والقيم المتخلفة المرتبطة به. وعليه، تجد أنّ معظم الطغاة والجبّارين وأصحاب الطموح الأعمى فهموا قيمة الفقر في إخضاع المجتمعات التي يرومون حُكمها، فتراهم يحرصون كلّ الحرص على زيادة نسبة الفقر بين الناس لحرمانهم من قدراتهم الحقيقية المقاومة للظلم والطغيان، تلك القدرات التي تشكّل الأساس الحقيقي لإنسانيتهم، وتطلّعهم الطامح نحو حياة أفضل.

إنّ إدراك حجم التأثير السلبي للفقر على بناء الإنسان يجعل أي نظرية سياسية أو توجه إصلاحي لبناء الدولة الحديثة محفوفاً بالمخاطر ولا يكتب له النجاح ما لم تكن محاربة الفقر في قمة سلم أولويات عملها/ عمله. فتحرير الإنسان من فقره يعني تحرير إرادته الحرّة الخلّاقة، وإطلاق طاقة الحياة وروح الأمل والمغامرة لديه، ليصبح هو أداة التغيير والبناء الجديد. فالرفاه الاقتصادي، ليس ضمانة للإنسان فقط، بل هو ضمانة لأزمة ومهمّة لتشييد أُسس المدنية الصحيحة للدولة أيضاً، لذا ليس غريباً أن نرى جميع الدول المدنية التي حققت مستوى متقدّماً من الاستقرار هي نفسها الدول التي لديها مستوى متقدّماً من الرفاه الاقتصادي، إذ يكاد ينعدم الفقر بين سكانها أو ينخفض إلى أدنى مستوياته. كما تجد أنّ رقة الطباع، والسلوك الحضاري للمجتمع، وانخفاض مستويات العنف والتطرُّف - الفكري والسلوكي- تتناسب طردياً مع مستوى الرفاه الاقتصادي العامّ، وعكسياً مع مستوى الفقر.

صفوة القول، إنّ الواقع العراقي الذي وصل فيه الفقر إلى مستويات مخيفة، يتطلّب وقفة عاجلة لإطلاق جرس الإنذار بوجه صانع القرار من أجل التعجيل بوضع إستراتيجيات واقعية وملموسة وحاسمة لمعالجة الفقر بين السكان، فنسب الفقر المرتفعة تنذر بعواقب وخيمة على الدولة والإنسان ستصل إلى حدّ إسقاط المدنية والديمقراطية وإعادة إنتاج تيارات العنف والجريمة والإرهاب والدكتاتورية من جديد.

ارسال التعليق

Top